النظام الوطني للإبداع أو الابتكار
الابتكار Innovation هو إيجاد تطوير جديد أو تعديل جديد على مادة أو عملية إنتاجية أو خدمية تؤدي للحصول على عائد اقتصادي أو دفاعي. أما النظام الوطني للابتكار (أو الإبداع) NIS فهو مجموعة من مركبات منظومة العلم والتكولوجيا يضاف إليها وجود علاقات تفاعل فيما بينها تؤدي إلى توليد ونشر واستعمال معرفة جديدة تستثمر اقتصادياً أو دفاعياً أو اجتماعياً ضمن حدود الوطن.
يبين الشكل رقم (3) تمثيل رمزياً للانتقال من منظومة العلم التكنولوجيا إلى النظام الوطني للابتكار NIS ويبين المخرجات أو النتائج التي تتأتى عن مثل هذا الانتقال.

والنظام الوطني للابتكار لا يمكن أن يوجد بدون إطار Framework يُفعّل العلاقات والروابط بين مركبات منظومة العلم والتكنولوجيا الوطنية والعالمية. وهذا الإطار هو ما نسميه بالسياسة الوطنية للعلم والتكنولوجيا. إذن فالنظام الوطني للابتكار هو ببساطة تجسيد لوجود منظومة وطنية للعلم والتكنولوجيا، تحكمها سياسة وطنية واضحة، ذات أهداف محددة وأولويات معلنة، يتم تنفيذها من خلال استراتيجيات مدروسة تضمن وجود الروابط والعلاقات الفعالة بين مركبات هذه المنظومة ويبين الشكل رقم (4) تبسيطاً لهذا المفهوم.
الشكل رقم –4- منظومة فعالة = نظام إبداع وطني
يتطلب وجود النظام الوطني للابتكار توفر إجراءات محددة يجري وضعها والتنسيق فيما بينها ضمن إطار العمل أو السياسة. تضمن هذه الإجراءات وجود الأهداف ووجود الروابط بين مركبات منظومة العلم والتكنولوجيا. يمكن تصنيف هذه الإجراءات في أبواب تشريعية قانونية، ومالية، وبشرية، ومؤسسية.
فمن الإجراءات القانونية وجود تشريعات تنظم عقود اكتساب التكنولوجيا وعقود شراء وسائل الإنتاج والتجهيزات بشكل يضمن نقل بعض المعرفة للوطن، ووجود تشريعات ضبط الجودة والمواصفات والمقاييس، وتشريعات حماية الملكية الفكرية وحماية البيئة واكتساب التكنولوجيات غير الملوثة، وتشريعات حرية الفكر والترجمة والتأليف والنشر وتشريعات محفزة للقطاع الخاص لتمويل أنشطة العلوم والتكنولوجيا وقيام الشركات الاستشارية في شؤون الإنتاج والخدمات.
ومن الإجراءات المالية تحفيز ضريبي ومالي للقطاع الخاص والعام للاستثمار في البحث والتطوير، وإدخال التكنولوجيا الحديثة في كل قطاعات الإنتاج والخدمات، وإجراءات تمنح تسهيلات ضريبية وجمركية تشجع نشوء الصناعات المستندة إلى التكنولوجيا المتقدمة، وإجراءات توفير رأس المال المخاطر لدعم قيام مؤسسات إنتاجية وخدمية مبنية على المعارف الوطنية الجديدة، وإجراءات زيادة المصروف على البحث والتطوير كنسبة من الناتج الإجمالي المحلي لتصل تدريجياً إلى 3% مثلاً، وإجراءات مالية تشجع قيام تعون عربي في مجالات العلم والتكنولوجيا على غرار الإجراءات الأوربية في مشاريع Esprit وBRIT و EURIKA وغيرها، وإجراءات مالية لتحسين وضع العاملين في العلم والتكنولوجيا في الوطن العربي لوقف هجرة العقول الهائلة وإعادة لعضها إن أمكن، وإجراءات مالية تشجع التفاعل والترابط بين مركبات منظومة العلم والتكنولوجيا.
وأما الإجراءات في مجال تكوين الأطر البشرية فهي أهم الإجراءات، وتمثل الاستثمار الأكثر فائدة للوطن إذا لم تحصل هجرة العقول بعد تكوينها. وهذا الاستثمار هو استثمار تكون عوائده أعلى من عوائد الاستثمار في أي من المجالات الأخرى في المجتمع، ومن الإجراءات اللازمة في إطار نظام الابتكار الوطني تحديد الاختصاصات التي ينبغي التركيز عليها في تكوين القوى الجامعية وذلك انطلاقاً من دراسات الوضع الراهن ودراسات مستقبل العلم والتكنولوجيا حسب القطاعات، ومن الإجراءات أيضاً التأكيد على نوعية التكوين وليس كميته وذلك بإحداث مؤسسات النخبة ومعاهد التكنولوجيا على التوازي مع الجامعات، وإعادة النظر في المناهج المعتمدة في كافة المراحل بهدف زيادة مواد العلم والتكنولوجيا فيها وإدخال مواد خاصة بالإنتاج والجودة والتقييس وتكنولوجيا المعلومات والمواد الجديدة والإدارة العلمية وغيرها مما استجد في اقتصاد العالم مع بداية القرن الحادي والعشرين، ومن الإجراءات أيضاً التوعية العامة عن طريق الإعلام المكتوب والمرئي والمسموع لأهمية العلم والتكنولوجيا في تحسين مستوى المعيشة وضمان الأمن، والاعتناء بالتكوين المستمر اعتناءً فائقاً وتبني فكرة التعلم مدى الحياة وخاصة في المجالات التكنولوجية سريعة التطور وزيادة تمويل هذه التدريب تدريجياً، وكذلك زيادة عدد ونسبة الموفدين أو المبتعثين في مجالات العلوم والتكنولوجيا وتوسيع الاهتمام بالدراسات العليا في الجامعات في المجالات العلمية والتكنولوجية، وربط هذه الدراسات بالمجتمع ربطاً محكماً، ومن الإجراءات المهمة الاعتناء بالتعاون العلمي والتكنولوجي العربي والعالمي وفق خطة واضحة وهادفة.
أما الإجراءات المؤسسية فتهتم بتشجيع وتسهيل إحداث وإصلاح مؤسسات العلم والتكنولوجيا إعادة النظر دورياً في أدائها وتحقيقها للأهداف المرجوة منها، وتفعيل مؤسسات البحث والتطوير في القطاعين الخاص والعام والتركيز عبر مشاريع وطنية على بناء قدرات تكنولوجية في مجالات محددة وفق أولويات مدروسة، وإجراءات للتنسيق والربط بين مؤسسات العلم والتكنولوجيا وفعاليات الإنتاج والخدمات مثل "حدائق العلم" و"الحاضنات التكنولوجية" و "المؤسسات الوسيطة" التي تربط بين البحث والتطوير من جهة والإنتاج والخدمات من جهة أخرى، ومؤسسات النشر العلمي وشبكات المعلومات وقواعدها والجمعيات العلمية والتكنولوجية ومؤسسات المواصفات والمقاييس والجودة ومؤسسات الاعتماد Accreditation.
وأخيراً نود التأكيد على الطبيعة القطاعية لنظام الابتكار الوطني مع الأهمية المتزايدة للتفاعل بين القطاعات المختلفة لضمان التعاضد والتداعم Synergy فيما بينها.
2إن ضعف النظام الوطني للابتكار في الوطن العربي يؤثر على عملية التنمية من خلال تأثيره على نقل وتوطين ثم توليد التكنولوجيا بشكل حقيقي ومن خلال تأثيره على توليد فرص عمل جديدة للمواطنين. والشكل (5) يبين بعض مؤشرات قياس وجود نظام وطني للابتكار.
توليــد التكنولوجيــا
تدل بعض الدراسات على وجود منظومة عربية غير مهملة للعلم والتكنولوجيا فهناك حالياً (عام 1996) ما يزيد عن 175 جامعة في الوطن العربي، ويزيد عدد الأساتذة في مجالات العلم والتكنولوجيا عن 50 ألف أستاذ، أما عدد الخريجين الجامعيين فيقارب العشرة ملايين منهم ما يزيد عن 700 ألف مهندس، ويصرف العالم العربي سنوياً ما يزيد عن سبعة بلايين دولار على التعليم العالي. من جهة ثانية توجد أكثر من ألف وحدة بحث وتطوير من كافة الحجوم يعمل فيها حوالي 19.1 ألف باحث. كما تدل إحصائيات مؤشر النشر العلمي ISI على أنه عام 1996 كان عدد النشرات العلمية التي شارك فيها باحثون عرب من العالم العربي يزيد عن 6652 مقالة. من جهة ثالثة توجد العديد من الشركات الصناعية الكبرى في مجالات البترول والبتروكيميائيات والصناعات الصيدلانية والكابلات الكهربائية والصناعات الغذائية وتجميع السيارات والأجهزة المنزلية وغيرها. وتدل الدراسات أيضاً على أن العالم العربي قد استثمر بين عامي 1980 و1997 ما يزيد عن 2500 بليون دولار في تشكيل رأس المال الثابت الإجمالي Gross Fixed Capital Formation GFCF. غلا أن هذه المنظومة العربية للعلم والتكنولوجيا وهذا الاستثمار الكبير في الأصول الثابتة لم يؤدِ في هذه الفترة إلى زيادة في دخل الفرد GDP/Capita على مدار العالم العربي بل على العكس فقد انخفض هذا المؤشر في العديد من الدول العربية!!
إن منظومة العلم والتكنولوجيا العربية لم تتحول إلى نظام وطني للابتكار وذلك للأسباب التالية:
- عدم الوعي العام بأهمية ودور العلم والتكنولوجيا في التنمية.
- عدم وجود سياسات رسمية معلنة للعلم والتكنولوجيا مع آليات ووسائل محددة لتنفيذها.
- عدم وجود مؤسسات وسيطة تربط مركبات منظومة العلم والتكنولوجيا، مما يعيق تحول هذه المنظومة إلى نظام فعال للابتكار وسنأتي على ذكر سريع لهذه المؤسسات في هذا المقال.
- ضعف في عدد العلماء والباحثين وهجرة الكثير منهم إلى خارج الوطن العربي.
- ضعف الاستثمار العام والخاص في مجالات العلم والتكنولوجيا المختلفة مثل التعليم العلمي والتكنولوجي والبحث والتطوير والتقييس والمعايير ونشر المعلومات العلمية والتكنولوجية وأمثالها من مركبات البنية التحتية العلمية والتكنولوجية للبلدان العربية.
- عدم اهتمام القطاع الخاص بالاستثمار في البنية التحتية للعلم والتكنولوجيا وخاصة البحث والتطوير.
إن ضعف النظام الوطني الابتكار يؤدي إلى أن الاستثمار العربي في رأس المال الثابت لا يعود بالأرباح التي يفترض أن يعود بها، لأن الاستثمار في وسائل الإنتاج لا يعني نقلاً حقيقياً للتكنولوجيا وامتلاكاً لها بل يعني فقط زيادة في القدرات الإنتاجية. ولكن تكنولوجيات هذه القدرات تتقادم مع الزمن مما يجعل السلع والخدمات المسوقة منها غير قادرة على المنافسة العالمية الشديدة بعد فترة من الزمن لأن فعاليات الإنتاج العالمية المماثلة في الدول المتقدمة تخضع لعملية تطوير تكنولوجي مستمر من قبل نظام الابتكار الوطني الخاص بها، وهذا لا يحصل في العالم العربي الذي يحتاج لشراء قدرات إنتاجية جديدة كلما تقادمت تكنولوجيا القدرات التي يملكها، وهذا يقلل من عائدات الاستثمار العربي بشكل هائل. والشكلان رقم (6) ورقم (7) يوضحان هذا المفهوم بشكل مبسط. إن تجارب العديد من الدول النامية التي بدأت مسيرتها نحو التقدم والتنمية الناجحة ككوريا الجنوبية وسنغافورة وأيرلندا وماليزيا وغيرها صحة هذا المفهوم ونجاعته، ولا يسمح مقام هذا المقال في إيراد المؤشرات الرقمية والإحصائيات والجداول التي تدعم هذه النتيجة إلا أنها متوفرة للدارس الراغب به